وداعاً لعصر النقد!
يكاد يكون مستحيلاً رؤية النقد الورقي والمعدني في السويد، فما السبب ؟!
تختار السويد تقليص التعاملات النقدية، أو حتى رفضها نهائياً لأنها مكلفة وبطئية مقارنة مع عمليات الدفع الإلكتروني وتجعلها عرضة للسطو والسرقة. وفي وقت كان فيه الدفع عبر البطاقات البنكية قبل عقدٍ من الزمن فإن طرق الدفع الإلكتروني التي تعددت، صارت بمتناول الغالبية العظمى من المجتمع السويدي.
انخفاض مستمر في التعاملات النقدية
عملت سلطات النقد في الدول الأوروبية ولا سيما دول الشمال الاسنكدنافي، على تشجيع وتسهيل عملية التحول السريع عن نظام النقد، لأسباب تتعلق بالرقابة المالية التي يسهل تحقيقها في حالة وجود الأموال في أرصدة بنكية، وتتوزع دواعي الرقابة من أمنية تتعلق بتمويل الجماعات المحظورة والإرهابية، إلى محاربة غسيل الأموال، والعمليات التجارية الغير شرعية بغرض التهرب الضريبي.
أسهم ذلك في حدوث تحولات جذرية على بنية التحركات المالية للأفراد والمؤسسات في العقدين الأخيرين، وكانت نتائجها أسرع ظهوراً في السويد من غيرها من الدول، لدرجة أصبحت معها نموذجاً يحتذى في هذا المضمار، فتقلصت التعاملات المالية المباشرة بالنقد بشكل متسارع لصالح التعامل أكثر بالبطاقات البنكية كخيار مفضل. مع توقعات بأن تصبح التعاملات النقدية المباشرة مرفوضة في نحو نصف تعاقدات تجارة التجزئة السويدية خلال الأعوام القليلة المقبلة.
يمثل النقد الورقي والمعدني اليوم نسبة ضئيلة جداً من الاقتصاد السويدي مقارنة بدول الاتحاد الأوروبي، وخلال العام 2018 دفع فقط 13% من المستهلكين السويديين مقابل شيء ما نقداً لاحصاءات البنك المركزي السويدي عام 2018 ، ورغم أن معظم التعاملات التجارية الكبرى بين التجار مازالت تعتمد النقد في جزءٍ منها إلا أن ذلك هو الآخر يترجع بشكل ملحوظ.
واليوم فإن 20% من بلد يبلغ تعداد سكانه 10 ملايين لا يستخدمون الصراف الآلي لسحب النقود. كما قام بضعة آلالاف من السويديين حتى الآن بزراعة رقاقات الكترونية صغيرة في معصم اليد تسمح لهم بالدفع، فكرة قد تبدو وكأنها تحاكي أفلام الخيال العلمي.
الكرونة الرقمية
مع تراجع دور النقد وتهميشه في كثير من مرافق الحياة في السويد اليوم بداية من المطاعم والمقاهي والمحلات التجارية، ومروراً بخدمات عامة كشراء تذاكر ركوب الحافلات، ووصولاً إلى اختبار كبريات المتاجر انهاء التعامل بالنقد. أصبح من الحكمة بما كان أن نعد أنفسنا لمستقبل حيث يتم سداد جميع المدفوعات (تقريباً) بشكل إلكتروني.
البنك المركزي (ريكسبنك) الذي يتوقع أن يتلاشى النقد من السويد خلال العقد القادم، أعلن في العام 2016 عن سعي السويد لإصدار عملة رقمية “كرونة رقمية” للحفاظ على سيطرته القوية على المعروض المالي، وهذه العملة التي ستكون أول عملة إلكترونية حكومية في العالم هي حالياً في مرحلة الاختبار.
ولأن مهمة الاقتصاديين الأولى هي الحد من المخاطر يستكشف المشرعون السويديون المخاطر التي تحيط بنظام المدفوعات عبر الإنترنت، والحسابات المصرفية في حالة فشل الشبكة الكهربائية أو إحباط الخوادم بسبب انقطاع التيار الكهربائي أو عمليات القرصنة أو حتى الحرب الالكترونية.
حقيقة تاريخية
ظهرت أول عملة ورقية في أوروبا بالعاصمة السويدية “ستوكهولم” عام 1661 بفضل الرحالة الإيطالي “ماركو بولو” الذي شاهد العملات الورقية في الصين أثناء حقبة الإمبراطور “يوان” وكتب عنها. ورغم بدايتها المتعثرة في ذلك العام فشلت جميع التشكيلات الاقتصادية التي نشأت حول العالم من ذلك الحين في التخلص من النقد كصيغة مركزية مقبولة لإتمام التعاملات التجارية.
الدفع باستخدام الهاتف
الاحصائيات تشير أن الشباب بين عمر 18ـ24 هي الشريحة الاجتماعية الأكثر تعاملًا بالدفع غير النقدي في مشترياتهم، وتتم هذه التعاملات عادةً باستخدام البطاقة البنكية أو تطبيق الهواتف الذكية “سويش” الذي أطلقته 6 من أكبر البنوك السويدية لتحويل الأرصدة من شخص إلى آخر أو من المشتري إلى البائع باستخدام الأرقام الهاتفية لطرفي عملية التحويل البنكي.
عملية التحويل سهلة، سريعة ومؤمنة، إلى درجة ساهمت بانتشار التطبيق بدرجة كبيرة في السنوات الأخيرة، وصار من الشائع أن تسأل عند شرائك من الباعة الجوالين على سبيل المثال إن كانوا يتعاملون بخدمة “سويش” بدلًا من الدفع النقدي، أو قد ترى بعض المحلات التجارية ولاسيما المقاهي تضع علامة سويش للدلالة على أنها تقبل الدفع بهذه الخدمة.
ومن إبداعات المدرسة السويدية في التعاملات النقدية الإلكترونية ظهور شركات تعمل على تسهيل حصول رواد الأعمال، ومن لديهم مشاريع بسيطة على أجهزة الدفع بالبطاقات، مثل شركة (آيزيتل)، التي تنتشر أجهزتها لدى باعة الأكشاك في الطرقات، (قامت شركة “باي بال” بالاستحواذ مؤخرًا على شركة “آيزيتل” بصفقة تجاوزت الملياري دولار).
كما أصبح لشركة كلارنا السويدية لخدمات الدفع اللاحق انتشار واسع، والتي ساهمت في تسهيل عمليات التسوق عبر الانترنت، أما اليوم فإن كلارنا هي أحد أكبر البنوك الأوروبية التي تقدم حلول الدفع لستة ملايين مستهلك عبر مئة ألف متجر في دول الاتحاد الأوروبي.
بين المُشَرعين والبنوك
وفي وقت تطالب فيه سلطة النقد والبرلمان، البنوك الكبرى بالاستمرار بتأمين السيولة النقدية لعملائها، قامت البنوك من جهتها بتفكيك مئات آلات الصرافة الآلية في مختلف أنحاء البلاد خلال العامين الأخيرين مبررين ذلك بتراجع استخدام هذه الآلات على المستوى الوطني، بحيث أصبح من المكلف وغير العملي ادارة هذا العدد الكبير من آلات الصرافة الآلية وتعقبها والحفاظ عليها.
البنوك التي ترى بالتعاملات المالية الإلكترونية فرصة أكبر للربح مع حصولها على عمولات عن جميع التحويلات المالية بين الأرصدة، ولا سيما الكبرى منها تجادل في واقعية مطلب المُشرعين السويديين باستمرار ضخ السيولة النقدية باعتبار أن ذلك سيخلق للبنوك مشاكل وأعباء لا مبرر لها في عملياتها اليومية. وهم يجادلون من منطلق أن الطلب على النقد ينتاقص بشكل كبير، ومن الخطأ في التشريع أن تحاول التأثير على ميزان الطلب بزيادة المعروض.
تحفظات
كما في أي تغيير جذري قد يصيب المجتمع فإن هناك تحفظات تطرح من هنا وهناك، لتشكك في عملية التخلص النهائي من النقد. فعلى سبيل المثال يرى البعض أن مجتمعاً خالياً من النقد سيترك آثاره السلبية على المتقاعدين، كما أن العملية لا تدعم بأي شكل من الأشكال المهاجرين، وطالبي اللجوء، والسياح، وأصحاب الاحتياجات الخاصة. فلا يمكن لأي من الفئات السابقة الذكر الوصول بسهولة إلى الوسائل الإلكترونية لبعض السلع والمعاملات، والاعتماد على البنوك وخدمة العملاء. آخرون على سبيل المثال يرون في الخطوة نهاية لدور الدولة الذي مارسته لقرون طويلة كضامن سيادي، وإعطاء دور أكبر للبنوك والشركات التجارية الكبرى التي ستحرك السوق وفقاً لمصالحها.